فصل: تفسير الآيات (69- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (63):

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63)}
قوله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} أي: أفاضل العباد. وقيل: هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل، وإلا فالخلق كلهم عباد الله. {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا} أي: بالسكينة والوقار متواضعين غير أَشِرين ولا مرحين، ولا متكبرين. وقال الحسن: علماء وحكماء. وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سُفه عليهم حلموا، والهَوْن في اللغة: والرفق واللين. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} يعني السفهاء بما يكرهون، {قَالُوا سَلامًا} قال مجاهد: سدادًا من القول. وقال مقاتل بن حيان: قولا يسلمون فيه من الإثم. وقال الحسن: إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا، وليس المراد منه السلام المعروف. وروي عن الحسن: معناه سلموا عليهم، دليله قوله عز وجل: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم} [القصص- 55]. قال الكلبي وأبو العالية: هذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نسختها آية القتال. وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذا وصف نهارهم، ثم قرأ {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} قال: هذا وصف ليلهم.

.تفسير الآيات (64- 67):

{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ} يقال لمن أدرك الليل: بات، نام أو لم ينم، يقال: بات فلان قَلِقًا، والمعنى: يبيتون لربهم بالليل في الصلاة، {سُجَّدًا} على وجوههم، {وَقِيَامًا} على أقدامهم. قال ابن عباس: من صلى بعد العشاء الآخرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدًا وقائمًا. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو نعيم عن سفيان، عن عثمان بن حكيم، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي: مُلِحًا دائمًا، لازمًا غير مفارقٍ من عذب به من الكفار، ومنه سمي الغريم لطلبه حقه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إياه. قال محمد بن كعب القرظي: سأل الله الكفار ثمن نعمه فلم يؤدوا فأغرمهم فيه، فبقوا في النار. قال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلا جهنم. والغرام: الشر اللازم، وقيل: {غرامًا} هلاكًا. {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي: بئس موضع قرار وإقامة. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ ابن كثير وأهل البصرة {يقتروا} بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ أهل المدينة وابن عامر بضم الياء وكسر التاء، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم التاء، وكلها بلغات صحيحة. يقال: أقتر وقترَّ بالتشديد، وقترّ يُقَتِّر. واختلفوا في معنى الإسراف والإقتار، فقال بعضهم: الإسراف: النفقة في معصية الله وإن قلت، والإقتار: منع حق الله تعالى. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج. وقال الحسن في هذه الآية لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله.
وقال قوم: الإسراف: مجاوزة الحد في الإنفاق، حتى يدخل في حد التبذير، والإقتار: التقصير عمَّا لابد منه، وهذا معنى قول إبراهيم: لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف. {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} قصدًا وسطًا بين الإسراف والإقتار، حسنة بين السيئتين. قال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون طعامًا للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبًا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويُكِنُّهم من الحر والقر. قال عمر بن الخطاب: كفى سرفًا أن لا يشتهي الرجل شيئًا إلا اشتراه فأكله.

.تفسير الآية رقم (68):

{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)}
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف بن جريج أخبرهم قال: قال يعلى وهو يعلى بن مسلم، أن سعيد بن جبير، أخبره عن ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة، فنزلت: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} ونزل: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر- 53].
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أيُّ الذنب أكبر عند الله؟ قال: «أن تدعو لله ندًا وهو خلقك» قال: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك»، قال: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»، فأنزل الله تصديقها: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} قوله عز وجل: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: شيئًا من هذه الأفعال، {يَلْقَ أَثَامًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما يريد جزاء الإثم. وقال أبو عبيدة: الآثام: العقوبة. وقال مجاهد: الآثام: واد في جهنم، يروى ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص ويروى في الحديث: «الغي والآثام بئران يسيل فيها صديد أهل النار».

.تفسير الآيات (69- 70):

{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)}
{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} قرأ ابن عامر وأبو بكر {يُضَاعفُ} و{يخلدُ} برفع الفاء والدال على الابتداء، وشدد بن عامر: {يضعف}، وقرأ الآخرون بجزم الفاء والدال على جواب الشرط. {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} قال قتادة: إلا من تاب من ذنبه، وآمن بربه، وعمل عملا صالحًا فيما بينه وبين ربه. أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله، حدثنا موسى بن محمد، حدثنا موسى بن هارون الحمال، حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي، حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر، عن علي بن يزيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنتين: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية، ثم نزلت: {إِلا مَنْ تَابَ} فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط كفرحه بها وفرحه بـ: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح 1- 2].
{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} فذهب جماعة إلى أن هذا التبديل في الدنيا؛ قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والسدي، والضحاك: يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيمانًا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانًا. وقال قوم: يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسناتٍ يوم القيامة وهو قول سعيد بن المسيب، ومكحول، يدل عليه ما: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي أحمد الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو عمار الحسين بن خريت، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار، يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال له عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وهو مقر لا ينكر، وهو مشفق من كبارها، فيقال: أعطُوه مكان كل سيئة عملها حسنة، فيقول: ربِّ إنَّ لي ذنوبًا ما أراها هاهنا، قال أبو ذر: لقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدتْ نواجذه. وقال بعضهم: إن الله عز وجل يمحو بالندم جميع السيئات، ثم يثبت مكان كل سيئة حسنة».

.تفسير الآية رقم (71):

{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}
قوله عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا} قال بعض أهل العلم: هذا في التوبة عن غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا، يعني: من تاب من الشرك وعمل صالحًا، أي: أدى الفرائض ممن لم يقتل ولم يَزْنِ، {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ} أي: يعود إليه بعد الموت، {مَتَابًا} حسنًا يفضل به على غيره ممن قتل وزنى، فالتوبة الأولى وهو قوله: {ومن تاب} رجوع عن الشرك، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
وقال بعضهم: هذه الآية أيضًا في التوبة عن جميع السيئات. ومعناه: ومن أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه الله. وقوله: {يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ} خبر بمعنى الأمر، أي: ليتب إلى الله. وقيل: معناه فليعلم أن توبته ومصيره إلى الله.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)}
{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال الضحاك وأكثر المفسرين: يعني الشرك. وقال علي بن طلحة: يعني شهادة الزور. وكان عمر بن الخطاب: يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويطوف به في السوق. وقال ابن جريج: يعني الكذب وقال مجاهد: يعني أعياد المشركين. وقيل: النَّوْح قال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم. وقال محمد بن الحنفية: لا يشهدون اللهو والغناء. قال ابن مسعود: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع». وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} قال مقاتل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد، نظيره قوله: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} [القصص- 55]، قال السدي: وهي منسوخة بآية القتال قال الحسن والكلبي: {اللغو}: المعاصي كلها، يعني إذا مروا بمجلس اللهو والباطل مروا كرامًا مسرعين معرضين. يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه.

.تفسير الآيات (73- 74):

{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)}
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا} لم يقعوا ولم يسقطوا، {عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} كأنهم صم عمي، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه. قال القتيبي: لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يروها. {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} قرأ بغير ألف: أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر. وقرأ الباقون بالألف على الجمع، {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أي: أولادًا أبرارًا أتقياء، يقولون اجعلهم صالحين فتقر أعينُنا بذلك. قال القرظي: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله عز وجل. وقاله الحسن، ووحَّد القُرَّةَ لأنها مصدر، وأصلها من البرد، لأن العرب تتأذى من الحر وتستروح إلى البرد، وتذكر قرة العين عند السرور، وسخنة العين عند الحزن، ويقال: دمع العين عند السرور بارد، وعند الحزن حار. وقال الأزهري: معنى قرة الأعين: أن يصادف قلبه من يرضاه، فتقر عينه به عن النظر إلى غيره. {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي: أئمة يقتدون في الخير بنا، ولم يقل: أئمة، كقوله تعالى: {إنا رسول رب العالمين} [الشعراء- 16]، وقيل: أراد أئمة كقوله: {فإنهم عدو لي} [الشعراء- 77]، أي: أعداء، ويقال: أميرنا هؤلاء، أي: أمراؤنا. وقيل: لأنه مصدر كالصيام والقيام، يقال: أم إمامًا، كما يقال: قام قيامًا، وصام صيامًا. قال الحسن: نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون. وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هداة، كما قال: {وجعلناهم أئمة يهتدون بأمرنا} [السجدة- 24]، ولا تجعلنا أئمة ضلالة كما قال: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} [القصص- 41]، وقيل: هذا من المقلوب، يعني: واجعل المتقين لنا إمامًا، واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم، وهو قول مجاهد.

.تفسير الآيات (75- 77):

{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ} أي: يثابون، {الْغُرْفَة} أي: الدرجة الرفيعة في الجنة، و{الغرفة}: كل بناء مرتفع عال. وقال عطاء: يريد غرف الدر والزبرجد والياقوت في الجنة، {بِمَا صَبَرُوا} على أمر الله تعالى وطاعته. وقيل: على أذى المشركين. وقيل: عن الشهوات {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر: بفتح الياء وتخفيف القاف، كما قال: {فسوف يلقون غيا} [مريم- 59]، وقرأ الآخرون بضم الياء وتشديد القاف كما قال: {ولقاهم نضرةً وسرورًا} [الإنسان- 11]، وقوله: {تَحِيَّةً} أي مُلْكًا، وقيل: بقاءً دائمًا، {وَسَلامًا} أي: يسلم بعضهم على بعض. وقال الكلبي: يحيي بعضهم بعضًا بالسلام، ويرسل الرب إليهم بالسلام. وقيل: {سلامًا} أي: سلامة من الآفات. {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي: موضع قرار وإقامة. {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} قال مجاهد وابن زيد: أي: ما يصنع وما يفعل بكم. قال أبو عبيدة يقال: ما عبأت به شيئًا أي: لم أعدّه، فوجوده وعدمه سواء، مجازه: أي وزن وأي مقدار لكم عنده، {لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} إيَّاه، وقيل: لولا إيمانكم، وقيل: لولا عبادتكم، وقيل: لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام، فإذا آمنتم ظهر لكم قدر. وقال قوم: معناها: قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه يعني إنه خلقكم لعبادته، كما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات- 56] وهذا قول ابن عباس ومجاهد. وقال قوم: {قل ما يعبأ} ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة، أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم، كما قال الله تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [النساء- 147]. وقيل: ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه في الشدائد، كما قال: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله} [العنكبوت- 65]، وقال: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} [الأنعام- 42]. وقيل: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} يقول: ما خلقتكم ولي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم.
{فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أيها الكافرون، يخاطب أهل مكة، يعني: إن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه. {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} هذا تهديده لهم، أي: يكون تكذيبكم لزامًا، قال ابن عباس: موتًا. وقال أبو عبيدة: هلاكًا وقال ابن زيد: قتالا. والمعنى: يكون التكذيب لازمًا لمن كذب، فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله. وقال ابن جرير عذابًا دائمًا لازمًا وهلاكًا مقيمًا يلحق بعضكم ببعض. واختلفوا فيه، فقال قوم: هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون. وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومجاهد ومقاتل، يعني: أنهم قتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة، لازمًا لهم. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عمر بن حفص بن غياث، أخبرنا أبي، أخبرنا الأعمش، حدثنا مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله: خمس قد مضين: الدُّخَان، والقمر، والرُّوم، والبَطْشَةُ، واللِّزام {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} وقيل: اللزام هو عذاب الآخرة.